الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

دور المسلم تجاه أزمة غلاء الأسعار

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ما هو الخطاب الدعوى المناسب للجمهور تجاه أزمة غلاء الأسعار؟ وكيف عالج الإسلام مثل هذه الأمور؟ وما هو دور المسلم تجاه هذه الأزمات وكيف يواجهها؟!
أرجو التوضيح بقدر كاف من التفصيل بالآيات والأحاديث ومواقف السيرة والصحابة والسلف، وأهم العناصر البارزة لهذا الموضوع.
وشكراً.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أحمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً ومرحباً بك، وكم يسعدنا تواصلك معنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله تبارك وتعالى أن يبارك فيك وأن يُكثر من أمثالك، وأن يجعلك من الدعاة إليه على بصيرة، وأن يرفع عنا وعنك وعن سائر المسلمين البلاء والغلاء والوباء والربا، وأن يوسع أرزاق المسلمين، وأن يعيننا جميعاً على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وبخصوص ما ورد برسالتك، فإنك تعلم أن الله تبارك وتعالى جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان واختبار، وأن دوام الحال من المحال، وأن هذه الابتلاءات تزداد مع زيادة الإيمان إذا كان في الناس دينٌ وصلاحٌ واستقامة، وقد تحمل صورة أخرى وهي صورة من صور العقاب العاجل الذي قد يعجله الله تبارك وتعالى لبعض عباده، وهو أيضاً يتناسب مع الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحب الله عبداً ابتلاه) وفي رواية: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم).
فغلاء الأسعار الذي يعاني منه الكثير من بلاد العالم الإسلامي أولاً هو ظاهرة عالمية؛ لأن غلاء الأسعار ليس خاصاً بالمسلمين وحدهم، وإنما العالم كله يشكو الآن من غلاء الأسعار، وهذا أمر تتبنى مواجهته حتى منظمة الأمم المتحدة؛ لأن هذا الأمر سمة عالمية – كما ذكرت – وأمر عمَّ وطمَّ البلاد والعباد جميعاً، إلا أن تعامل المسلمين معه يختلف عن تعامل غيرهم معه، فنحن ما بين واحد من اثنين: إما أن نكون عباداً صالحين شاء الله تبارك وتعالى أن يبتليهم بهذا الابتلاء ليرفع من درجاتهم ويحط من خطاياهم، ولا أدل على ذلك من هذا شظف العيش الذي عاشه النبي صلى الله عليه وسلم وعاشه أصحابه، سواء أكانت في الفترة المكية أو في مقدمة الفترة المدنية كما تعلم، فإنهم تعرضوا لأزمات حتى إن الرجل كان يسقط من طوله من شدة الجوع وهو يصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، بل إن بعضهم كان له كساءٌ إذا لبسه بدت منه عورته فكان يمسك كساءه بيده لئلا تظهر له عورة، بل إن محمد بن سيرين يقول عن أبي هريرة: (كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان، فتمخط في أحدهما، ثم قال: بخٍ بخٍ يتمخط أبو هريرة في الكتان لقد رأيتني وإني لأخر فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة من الجوع مغشياً علي، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي الجنون وما بي جنون وما هو إلا الجوع).
وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه - كما تعلم - صحابي جليل من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يبين لنا الصورة العامة التي كانت لدى الكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كان ينام على بطنه من شدة الجوع رغم أنا نعلم أن النوم على البطن منبوذ، ولكن ما كان يفعل ذلك إلا اتقاء الجوع الشديد الذي يعجزه عن أن يقف بين يدي الله في الصلاة. وفي غزوة الأحزاب كما لا يخفى عليك.
إذن ارتفاع الأسعار أو حدوث المصائب العامة للأمة قد تكون نوعاً من الابتلاء لأولياء الله تبارك وتعالى حتى يمحصهم، ويرفع من درجاتهم، ويحط من خطاياهم، وهو نوع من التربية، ولذلك فإن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين رُبُّوا على هذه الطريقة الربَّانية لما فُتِحت عليهم الدنيا لم يتغيروا، فأنت لم تعهد من أحدهم كبراً ولا غروراً ولا تعالي، بل إنهم كانوا قادة الدنيا، وكانوا رغم ذلك حريصين على نفس المستوى الذي عاشوه مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأنت تعلم أن سلمان الفارسي كان والياً على حمص، وكان والياً على العراق، ورغم ذلك ما كان يأخذ شيئاً من راتبه، وإنما كان يعمل خواصاً، يشتري شيئاً بدرهم ثم يصنعه فيبيعه بثلاث دراهم يتصدق بدرهم وينفق درهماً على نفسه وعياله، ويدخر درهماً يشتري به خوصاً مرة أخرى، ولم يكن يتقاضى من ولايته شيئاً.
وأبو عبيدة – أمين هذه الأمة – عندما كان قائداً للجيوش التي تفتح بلاد الشام، ذهب عمر لزيارته رضي الله عنهما فقال: إني أريد أن أرى بيتك يا أبا عبيدة، فقال له: يا أمير المؤمنين! ما أرى إلا أنك تريد أن تعصر عينيك – أي تبكي – فلما دخل إلى بيت قائد جيوش الإسلامية وجد بيته ليس فيه شيء من عرض الدنيا، شنٌ صغير به كسرات من الخبز الجافة ولم يجد فيه شيء، وإنما بيتٌ خرب كأنما هجره أهله من سنوات، فقال: ما عندك شيء؟ قال: هذا ما عندي يا أمير المؤمنين.
فقال له عمر وهو يبكي: كل الناس غيرتهم الدنيا إلا أنت يا أبا عبيدة، فقال: أنا يا أمير المؤمنين! فأين أنت يا أمير المؤمنين؟
وظل عمر كذلك على هذا الشظف مع القدرة لأنهم يعلمون أن ما تركهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم كان خيراً، بل إن هناك فضالة بن عبيد الله كان والياً على مصر، وكان غالب أوقاته يمشي حافياً في طرقات مصر – وهو والي مصر – ورغم ذلك كان يتحفى ويقول: هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يلبس من الثياب أخشنها، لماذا؟ لأنهم أرادوا أن يكونوا على نفس الحال وألا تغيرهم الدنيا، فهذا الذي يحدث إنما هو نوع من تربية الأمة، نوع من الابتلاء والاختبار، ولذلك المؤمن في هذه الحالة ليس أمامه إلا أن يصبر وأن يتضرع إلى الله تعالى بالدعاء لأن الله على كل شيء قدير.
إذن هذا الغلاء وهذه المصائب والمحن عندما تصيب الصالحين من عباد الله فهي في رفع درجاتهم وحط خطاياهم وتثقيل موازينهم، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة ولا تخفى عليك.
وهناك نوع آخر أيضاً قد يحدث للعبد وهو أن العبد عندما ينحرف عن منهج الله تعالى ويعطِّل شرع الله قد يكون عرضة لعقاب الله - والعياذ بالله – ولذلك الغلاء هنا غلاء عالمي، ومعنى أن الغلاء عالمي أن الناس قد ابتعدوا كثيراً عن الفطرة، فبدأ الحق جل جلاله يستعمل معهم شيئاً لعلهم أن يرجعوا إلى عقولهم، لعلهم أن يرجعوا إلى صوابهم؛ لأن الله تبارك وتعالى كما ورد في الأثر: (إن الله يجرب عبده بالبلاء كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار).
أناس بسط الله لهم في الأرزاق، وأناس وسع الله لهم فيها، وأناس أنبت لهم من خيرات الأرض، وأخرج لهم من بركات البحار، وأنزل عليهم من بركات السماء، ولكنهم ما ازدادوا إلا فساداً وإفساداً وضلالاً وإضلالاً كما ترى، ما من يوم تمر إلا وتظهر فتن عظيمة ما كانت في من كان قبلنا من الناس، هذه الفتن التي تحدث والإغراءات التي تقع، والتفلت الواضح حتى من المبادئ القيمة، تسمع عن أمم الآن يتزوج الرجل رجلاً بموافقة الجهات الرسمية، وتسمع عن امرأة تستأنس بامرأة، وتنشأ هناك نوادي العراة، وأماكن السحاق الجماعي بموافقة العالم، وتسمع عن الشواذ جنسياً المنحرفين عن الفطرة لهم صوتٌ الآن يؤثر في اختيار رؤساء الدول الكبرى كأمريكا وغيرها!!
وهذا كله ما كان من قبل، وهذه أشياء ما كانت تحدث أصلاً بهذه الصفة، ولذلك هذا البلاء بلاء عام، أصاب أهل الإسلام وأصاب غيرهم؛ لأن أهل الإسلام أيضاً ليسوا على الإسلام الحق، تعطيل شرع الله تبارك وتعالى في أرض الله، مخالفة أوامر الله، التفلت الواضح من التكاليف الشرعية، تبرج النساء بصورة لم تحدث من قبل، أشياء كثيرة.
الظلم ظلمات الذي أصاب الناس في كل مكان، ولذلك هذا نوع من الابتلاء ولفت النظر إلى أن يعود الناس إلى ربهم، وأن يعودوا إلى رشدهم، لأنهم سلكوا طريقاً ليس بصحيح ولا سليم.
والصحابة – رضوان الله تعالى عليهم – كانت مواقفهم واضحة، عندما تعرضوا للبلاء لم يتغيروا، لأنهم أهل إيمان وإحسان، والله تبارك وتعالى يعطينا هذا كإنذار نحن معاشر المسلمين لعلنا نفيق .. لعلنا ننتبه .. لعلنا نراجع أنفسنا، ونعلم أن الله الذي رفع الأسعار الآن قادر على أن يحرم الناس من هذه الأرزاق، فيعيش الناس شظفاً من العيش وشدة كالبلاء الذي يضرب بعض دول إفريقيا حدث لهم من بعد رغد العيش، لا يملكون قوت يومهم، ويقتتلون على التمرة الواحدة، بل وينقبون في الأرض عن جحور النمل ليستخرجوا تلك الكسرات الصغيرة التي ادخرها النمل لنفسه لفترة الشتاء.
إذن هذا كله له مظهره، إما أن يكون الناس مع الإيمان، وإما أن يكونوا مع المعصية، فهذا نوع من أنواع التنبيه والتذكير، يقول الحق تبارك وتعالى في ذلك: (( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ))[طه:123]^ لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، وأيضاً لا يضل في الآخرة ولا يشقى في الدنيا.
ويقول أيضاً بالمقابل: (( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ))[طه:124]^ هذه الشدة وهذا الهوان وهذا الارتفاع في الأسعار إنما هو ثمرة طبيعية للإعراض عن منهج الله تعالى. ويقول أيضاً: (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ))[الأعراف:96]^.
إذن انعدام الإيمان والتقوى يترتب عليه أن تُغلق أبواب هذه البركات، ويقول أيضاً جل جلاله سبحانه: (( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ))[النحل:97]^ فجعل الحياة الطيبة مرهونة بالإيمان والعمل الصالح، فإذا ضعف الإيمان وقلَّ العمل الصالح تعرض الناس للسلب بعد العطاء (( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ))[يونس:98]^.
إذن جعل الله تبارك وتعالى البركة في الأرزاق لعموم المسلمين مقرونة بالإيمان والطاعة والاستقامة.
نعم قد يتعرض الإنسان في بعض الأيام إلى شيء من الضعف أو إلى شيء من القلة، ولكن الله تبارك وتعالى يبسط له كالصحابة رضي الله عنهم، فكما ذكرت لك عاشوا مع النبي ما عاشوا من شظف العيش والبؤس الشديد والفقر الشديد والجوع الشديد، ولكن انظر إلى ما أكرمهم الله به بعد ذلك، جاءتهم الدنيا وهي راغمة، فكانوا يركلونها بأقدامهم.
الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه الذي خرج من مكة لا يملك شيئاً من عرض الدنيا لأنه ترك كل شيء وراءه، يموت وفي بيته أكثر من ألف خادم، وظل ابنه عبد الله بن الزبير ينادي في المسلمين: من كان له دَيْنٌ ولو درهم عند الزبير بن العوام فليأتنا، وبعد أربع سنوات لم يأت أحد يطلب شيئاً ويدعي شيئاً، فوزعت الأموال وكانت بالملايين، هذه التركة التي تركها الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ناهيك عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه الذي خرج من مكة لا يملك شيئاً، ونزل بالمدينة فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين صحابي يسمى سعد بن الربيع رضي الله تعالى عنه، ونظراً لفقر عبد الرحمن بن عوف أراد سعد أن يشاطره ماله، وأن يعطيه زوجة من زوجاته، وأن يشاطره بيته، وأن يعطيه نصف أرضه، ولكنه قال: بارك الله لك في ذلك كله، أنا رجل تجارة أبيع وأشتري، دلني على السوق، فدخل السوق وهو لا يملك شيئاً، يعمل حمالاً، يعمل وزَّاناً، يتاجر في تجارات بسيطة، وظلت عجلة الزمان تدور حتى أصبحت أمواله تُقطع بالفؤوس، وأصبح يُخرج أموالاً راتباً ثابتاً لكل فقراء المدينة سواء كانوا من المهاجرين أو الأنصار – خاصة أهل بدر – وأهل بيت النبوة كان يعطيهم عطاءً جزلاً رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وناهيك عن عثمان بن عفان، حتى أنس بن مالك خادم النبي عليه الصلاة والسلام بسطت لهم الأرزاق ببركة الطاعة والاستقامة، ولكنها لم تغير فيهم شيئاً.
فالذي يحدث الآن إنما هو ابتلاء عالمي للإنسانية كلها نتيجة تعطيل منهج الله تعالى.
المسلمون مثابون قطعاً على هذا الابتلاء، سواء كان ذلك عن إيمان أو كان ذلك عن تفريط وعصيان، إلا أنهم في جميع الأحوال مثابون لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
نسأل الله أن يوسع أرزاق المسلمين، وأن يرفع عنهم الغلاء والبلاء، وأن يوسع لنا في عقولنا وقلوبنا، وأن يزيدها إيماناً وتقى، وأن يبصرنا بالحق، وأن يردنا إليه مرداً جميلاً، إنه مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
وبالله التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك
  • الكويت عمر بن علي بن محري

    جيد

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً