الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

بين الزهد في الدنيا والعمل لها

السؤال

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعلنا من أمة خير خلقه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد:
لقد حض الإسلام على عدم الاستكثار من الحياة الدنيا، وعلى الزهد فيها، وأن يكون الإنسان فيها كعابر السبيل، إذا أصبح لا يحدث نفسه بالمساء وإذا أمسى لا يحدث نفسه بالصباح.
وفي نفس الوقت نلاحظ أن تعاليم الدين الإسلامي تحض على العمل، ففي حديث شريف لا أذكره جيداً، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها). أو كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام .
وإني بين حض الإسلام على الزهد والتقليل من الدنيا، وبين حضه على العمل والإنتاج قد تاهت سفينتي في بحار الإسلام الشاسعة، فتارةً أقول: إن الحكم إلا لله، والله متم نوره ولو كره الكافرون، ولابد من العزلة والعبادة وانتظار الموت والزهد في الدنيا والتقليل منها؛ لأن حلالها حساب وحرامها عقاب، وتارةً أقول: فإذا زهد العقلاء في الدنيا، فمن لها؟ وهل ستترك إلا لأمثال الأرعن بوش وعصابته الشريرة؟
أجدني تارةً أنأى بنفسي عن الدنيا، وتارةً أطلبها ممن لا يستحقونها، ليس لإرادتي إياها لنفسي بل لرغبتي بها عنهم، فأجد نفسي كأنني ألهث وراء الدنيا مع اللاهثين، فأحتقر تشابه وسيلتي بوسيلتهم رغم علمي باختلاف الغاية.
ثم إني لا أعرف أيهما وسوسة الشياطين، فقد أظن أن الشيطان يريدني أن أبتعد عن الدنيا لأُسأل عن تقصيري فيها أمام الله، وقد أظن أن الشيطان يوهمني بأنني لا أسعى وراء الدنيا لإرادتي إياها وإنما لهدف سام ، بينما في الواقع أنا في شركه كغيري من المغرورين، والله المعين.
فهل لكم إلى إرشادنا من سبيل؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ أحمد السعيد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك استشارات الشبكة الإسلامية، فأهلاً وسهلاً ومرحباً بك، وكم يسعدنا اتصالك بنا دائماً في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأله جل وعلا أن يبارك فيك وأن يكثر من أمثالك في المسلمين، وأن يشرح صدرك للذي هو خير، وأن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وبخصوص ما ورد بسؤالك: فيبدو لي أنه نوعٌ من عدم وضوح الرؤية أمامك؛ نتيجة قلة المعلومات المتوفرة لديك أو عدم أخذها من المصادر الصحيحة المفيدة، مما أدى إلى ظهور هذا التناقض الشكلي، ولست وحدك الذي وقعت في هذه الإشكالية فكثيرٌ من الناس مثلك منذ عهد الصحابة حتى يومنا هذا يقعون في هذه الإشكالية، ولذلك تولى القرآن الكريم وضع الخطوط العريضة لعلاجها فقال سبحانه وتعالى عن الصحابة رضي الله عنهم: (( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ))[النور:36-37] فهذا هو ثناء الله جلا وعلا على خير الخلق بعد الأنبياء والمرسلين ومن بشرهم الله بالجنة وهم أحياء، الذين لو أنفق أحدنا مثل جبل أحد ذهب ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فهؤلاء هم أعبد الناس وأتقى الناس وأعلم الناس، بل لقد تقدم بعض الصحابة كعلي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون وغيرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعرضون عليه التبتل والانقطاع عن الدنيا والتفرع للعبادة، فنهاهم عن ذلك صلى الله عليه وسلم، وفيهم نزلت هذه الآيات السابقة كما يقول كثير من المفسرين .

وعندما نأتي إلى الزهد فنجد أن معناه ليس ترك العمل والانقطاع عن الدنيا، وإنما حقيقته أن تقبل عليك الدنيا ولا تشغل بها، بل تجعلها في يدك إن طلبها منك مولاك عجلت بتقديهما طيبة بها نفسك كما كان حال الصحابة الكبار كأبي بكر وعمر وعثمان وابن عوف وغيرهم، ومن السلف عبد الله بن المبارك، فهؤلاء كانوا أهل ثراء وغنىً ويسار، ورغم ذلك كانوا أتقى الناس وأعلم الناس وأعبد الناس لله.

فما عليك أخي أحمد إلا أن تأخذ بأسباب التمكين والقوة أياً كانت، على أن تعلم أنها عارية مؤداة، وأنها أمانة يسألك عنها الله فلا تشغل بها عن طاعتك لمولاك، واجعلها وسيلةً ليست غاية، وهذا هو الفرق بينك وبين طلاب الدنيا وعباد الشهوات الذين يجعلون جمع الدنيا وحطامها غاية في حد ذاتها، وهم من عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (تعس عبد الدنيا، وتعس عبد الدرهم والدينار ....).

فخذ بالأسباب، وواصل التقدم، واقرأ عن أجدادك العظام كيف ملكوا الدنيا وملؤها عدلاً وإنصافاً ولم تشغلهم عن ذكر الله والقيام بحقوق العبودية، ولذلك قال عنهم مولاهم (( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ))[البينة:8].

وقال رسولك صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح في يد العبد الصالح) وقال أيضاً: (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) فكن أنت العبد الصالح صاحب المال الصالح، وكن أنت المؤمن القوي الذي يخدم الإسلام بعلمه وماله وعمله وجاهه وسلطانه، واجعلها في يدك ولا تجعلها في قلبك تكن من الفائزين، وبالله التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً